فارسة الخوارج
غزالة .. المرأة التي خشي الحجاج منازلتها بالسيف
كانت تقاتل بجوار زوجها شبيب وتسعدها رؤية الدماء والأشلاء
وقد وقفت امام هذه القصة المثيرة التي قرأتها في كتاب (نساء محاربات)
.. لقد توقفت أمامها كثيرا، لانها تجعلك تقف امام بعض المواقف مشدوها..
كيف يشكل الفكر والعقيدة سلوك الناس، فيعيش لهذه الأفكار
ويدين بها حتي لو كانت بعيدة عن الصواب.
القصة تتحدث عن امرأة اسمها (غزالة).. وغزالة تلك كانت من الخوارج،
وكانت شجاعتها مضرب الأمثال، كما كان زوجها (شبيب بن يزيد)
أيضا مضرب الامثال في الشجاعة، وكان شبيب هذا أميرا للخوارج،
قيل عنه إنه قتل خمسة من قواد الحجاج بن يوسف الثقفي،
وهزم له عشرين جيشا. وكانت زوجته هذه خطيبة بارعة في الخطابة،
كما كانت تحارب وتقاتل معه في ميدان القتال، غير آبهة بخطر، ودون ان تخشي منازله الفرسان..
بما فيهم تحديها للحجاج بن يوسف الثقفي نفسه علي غلظته
ودمويته ووحشيته وقبل ان نتحدث عن قصة (غزالة)
تلك لابد ان نعرف شيئا عن فكر الخوارج،
والخوارج اسم يطلق كما يقول الدكتور محمد عبدالمنعم القيعي
علي كل من خرج علي الامام الحق المتفق عليه،
وهم المتمردوين علي طاعة الإمام دون ان يعتنقوا مذهبا معينا
او يكون لهم رأي خاص بهم، لكن صار هذا الاسم عاما
علي طائفة لها منطقها ورأيها ، وقد اطلقت عليهم اسماء عديدة
المهم أن هذه الطائفة أحدثت في المجتمع الاسلامي فتنة عارمة لتكفيرهم
كل من لم يكن معهم علي من يحاربونه ولو كان موقفه سلبيا أو محايدا.
* * *
ومع ذلك فقد امتاز هؤلاء المتطرفون بالجرأة والشجاعة النادرة ،
حتي اننا نراهم وهم يتصدون لمن يحاربهم بعنف وشراسة..
وقد حاربهم الحجاج بن يوسف الثقفي في عهد عبدالملك بن مروان
بلا هوادة.. وكان الحجاج بن يوسف شديد الوطأة علي من يحاربه..
ولم يكن يعمل لأي إنسان أي حساب، حتي أنه قسا علي
(أنس بن مالك ابن النضر) خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم،
ولم يسلم منه الا بعد أن وبخه الخليفة عبدالملك بن مروان،
الذي أمره أن يعتذر لخادم الرسول، وتعجب من جرأته أن بعنف أنس
خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي كان يطلعه علي سره،
ويفشي له الاخبار التي تأتيه من ربه' كما جاء في كتابه الي الحجاج
ثم عقب ذلك بأن أمره أن يمشي علي قدميه راجلا غير راكب.
وأطاع الحجاج أمر الخليفة، واعتذر له، وطلب منه أن يكتب إلي الخليفة
يلتمس منه الرضا والصفح عنه.
* * *
الحجاج هذا بكل غلظته، وقفت أمامه (غزاله) في إحدي المعارك،
بعد أن قتلت العديد من فرسانه، ثم طلبت منه المبارزة،
فخاف منها الحجاج، وهرب من هذه المواجهة..
فيره عمران بن قحطان بتلك الأبيات اللاذعة التي تقطر تهكما وزراية؟
أسد علي، وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلي غزالة في الوغي
بل كان قلبك في جناحي طائر!!
أما زوجها فهو رجل من جبابرة الخلق وعتاتهم، له امرأة علي غراره،
قيل أنها كانت فقيهة أيضا وخطيبة، فهي معتزة بجبروت رجلها،
حتي أنها قالت له يوما:
باشبيب.... لقد نذرت لله نذرا سألتك أن تعينني علي الوفاء به؟
وماذاك ياغزالة يرحمك الله؟
أن أصلي في مسجد الكوفة الجامع ركعتين، أقرأ في الأولي سورة البقرة،
وفي الثانية سورة آل عمران.
وما أدراك ما الكوفة آنزاك.
انها حاضرة الجبار العنيد ابن يوسف الثقفي الذي قتل له شبيب القواد،
وأفني له الاف الاجناد، وجعله مضغة في أفواه العباد،
وان للحجاج في الكوفة لستين ألفا جمعهم لحرب شبيب وغزالة.
ولكنه الجبروت والعزة بالفتوة!
وناهيك بالبقرة وآل عمران: انهما أطول سور القرآن قاطبة،
فآيات البقرة مائتان وست وثمانون آية، وآيات آل عمران مائتان.
وناهيك بصلاة تتلي فيها هاتان السورتان وسط عدو عدته ستون ألفا..
أنها ليست صلاة الواجف العجلان، بل هي فعلة المستأني أناة الاستهانة
بعدوه الجرار. ولكنه الجبروت والعزة بالفتوة
* * *
والعجيب ان شبيب حقق أمل زوجته (غزالة) فزحف بجيشه نحو الكوفة،
وقتل في طريقه من قتل من رجال الحجاج، ودخل الكو فة نفسها
وفيها الحجاج وجنده، وسار في شوارعها وبجواره غزالة
حتي دخلت المسجد لتصلي فيه، ووقف هو وبعض جنوده
عند البا بالحراستها، حت
أدت نذرها وعاد من حيث قدم !!
ويقال عنها انها كانت تهاجم المدن ومعها مجموعة من النساء،
حتي قال فيها خزيمة بن فاتك الأسدي:
أقامت غزالة سوق الضرار
لأهل العراقين حولا قميطا
سمت للعراقين في جيشها
فلاقي العراقان منها أطيطا
(والاطيط) هو الصوت يخرج عند اشتداد الكرب،
او هو حنين الابل الي معاطفها،
والمعني:
أن أهل العراق لقوا منها الويل والحرب
والمحللون لشخصية هذه المرأة الجريئة التي لاتعبأ بالحروب،
ولاتخشي الرجال، والتي كانت تقاتل وتقتل، ولاتخشي رؤية دماء الضحايا،
ولاتعاف رؤية الأشلاء، ماكانت تفعل كل ذلك،
إلا أنها كانت تري في زوجها شبيب القدوة والمثال.
فهو جريء لايعرف الخوف،
شديد لايعرف اللين،
يدافع عمعا يعتقد دفاعا دونه الموت.
وكانت هي تقلده في كل ذلك.
تراه لايهاب الموت فلم تهب نهاب الموت.
وتراه متعطشا للدماء، فتاقت نفسها لرؤية الدماء.
لم تحارب عن فكر..
ولم تحارب عن دين..
بل حاربت وهي تعتقد ان مايخالف رأيها أو يخالف رأي الخوارج
مصيره الموت.. كانت تحارب عن ضيق أفق. وتحارب عن تعصب ممقوت
او كما يقول الامام الغزالي في كتابة المنقذ من الضلال:
'إن للإسلام عدوا من الخارج، هو أقل خطرا كالمشركين والوثنيين.
وعدوا من الداخل هو أشد خطرا كمسلم جاهل لايفهم دينه،
ويتعصب لجهله وضلاله.
* * *
وتمر الأيام
ويغرق زوجها شبيب عندما نفر به جواده،
وسقط في دجلة.. وانتهت حياته وإذا بغزالة وقد فقدت الرجل
التي كانت تري فيه كل مثلها، قد انهارت قواها،
ولم تعد لديها القدرة علي التحدي والقتال.. ماتت فيها هذه الروح،
ووهن فيها العزم، ولم تعد هي هي التي تخوض المعارك
ولايهمها يجور الدم.. حتي انها في أول مواجهة منيت بهزيمة ساحقة،
وقتلت في هذه المعركة.. و.. أسدلت الايام ستار النسيان علي امرأة
كانت في يوم من الايام تملأ الحياة خوفا ورعبا، لانها كانت تتمثل بزوجها
الذي عاش حياته، وهو يري انه علي حق، وغيره علي الباطل،
ولم يفكر او يعمل عقله مرة واحدة، حتي يثوب لرشده وتثوب معه الجماعة
التي تعلقت به، وآمنت بفكره